كان أهل بابل يتنعمون بعيش رغيد ونعم كثيرة أنعم الله بها عليهم، ولكنهم مع ذلك نسوا فضل الله عليهم واتبعوا الشيطان فعبدوا الأصنام التي كانوا ينحتونها بأيديهم وهي التي لا تضر ولا تنفع، لا تخلق ضررا ولا نفعا.
وكان ملكهم نمرود قد طغى و ضل حتى ادعى الألوهية وأمر قومه بعبادته من دون الله عز وجل.
ولما رأى إبراهيم عليه السلام أنهم ما زالوا متعلقين بعبادة الأصنام وأنهم لم يتقبلوا الأدلة والبراهين الواضحة الجلية التي جاء بها، قرر أن يفعل بأصنامهم فعلا يقيم الحجة به عليهم لعلهم يفيقون من غفلتهم العميقة.
وكان من عادة قومه أن يقيموا لهم عيدا، فلما حل عليهم عيدهم خرجوا ليحتفلوا خارج المدينة في البساتين والحدائق.
فدخل إبراهيم عليه السلام إلى بيت الأصنام الذي كان قومه يعبدونها فيه، فإذا في صدر البيت صنم كبير وعلى يمينه ويساره أصنام صغيرة، فأمسك بيده اليمنى فأسا وأخذ يهوي به على الأصنام الصغيرة يكسرها ويحطمها ثم علق الفأس في عنق الصنم الكبير، حتى إذا رجع قومه يظهر لهم أن هذه الأصنام لم تستطع أن تدفع عن نفسها ضرا فكيف تعبد من دون الله القوي القهار.
عاد قومه فعرفوا أنه هو من حطم أصنامهم، ولكنهم لشدة جهلهم وكفرهم لم يفهموا ما قصد إليه إبراهيم عليه السلام فاغتاظوا وأرادوا أن ينتقموا منه، فاختاروا نوعا من أشد أنواع العذاب وهو الإحراق بالنار.
صار الكفار يجمعون الحطب من جميع ما يمكنهم من الأماكن، وأتوا بهذا الحطب الكثير ورموه في حفرة عظيمة وأضرموا فيها النار فاضطرمت وتأججت والتهبت وعلا لها شرر عظيم وصوت مخيف لم ير ولم يسمع بمثله.
وكان من شدة اشتعالها أنها تحرق الطائر الذي يمر فوقها وكان الكفار لا يستطيعون لقوة اللهب أن يتقدموا من النار فكيف سيرمون إليها إبراهيم عليه السلام؟
أتى إبليس اللعين متشكلا وعلمهم صنع المنجنيق الذي لم يكن يعرف من قبل، وقيل إن رجلا منهم اسمه "هيزن" كان أول من صنعه فخسف الله به الأرض، ثم أخذ قوم إبراهيم عليه السلام يقيدونه ويكتفونه وهو يقول: "لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك"، فلما ألقي في النار قال بلسان المتوكل على الله: "حسبنا الله ونعم الوكيل".
وأعطى الله نبيه الكريم معجزة باهرة فلم تحرقه النار ولم تصبه بأذى ولا حتى ثيابه، وإنما أحرقت وثاقه الذي ربطوه به، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء/69] وكان الناس يقفون على مسافه بعيدة، ينظرون هذا المنظر الهائل المخيف.
مكث نمرود أياما لا يشك أن النار قد أكلت إبراهيم عليه السلام، فرأى إبراهيم جالسا وإلى جنبه رجل مثله، فقال لقومه: "لقد رأيت كأن إبراهيم حي، ولقد شبه علي، ابنوا لي منصة عالية لأرى ما الأمر"، فبنوا له منصة وأشرف منها فرأى إبراهيم عليه السلام جالسا وإلى جنبه رجل في صورته، فنادى نمرود سائلا إبراهيم عليه السلام: "هل تستطيع الخروج؟" فأجابه: "نعم"، ثم سأله: "أتخشى إن أقمت فيها أن تضرك؟". قال: "لا".
ومع كل هذه العجائب فإن نمرود وقومه ظلوا على كفرهم وعنادهم ولم يؤمن إلا القليل لكنهم أخفوا إسلامهم خوفا من ملكهم الكافر الذي سيلقى جزاءه العادل يوم القيامة. في هذه البيئة المنحرفة ولد سيدنا إبراهيم عليه السلام وكان منذ نعومة أظفاره قد أُلهم الإيمان بالله تعالى وأن الله لا يشبه شيئا من مخلوقاته وأنه هو خلق هذا العالم بأسره فلما أوحي إليه برسالة الإسلام دعا قومه لعبادة الله وحده، وأمرهم بأن يتركوا الأصنام التي كانوا يتفننون بنحتها وتزيينها ويذبحون لها الذبائح على زعمهم تقربا إليها، فلم يطعه الكثيرون بل ازداد تكبرهم وتجبرهم وعلى رأسهم ملكهم نمرود.